
في شوراع مُلأت أرضيتها بالركام، يسير مجموعة من الأطفال يتحدثون بلغة غريبة عن عمرهم، بعد أن كان محور حديثهم يدور حول المدرسة والامتحانات.
الواقع الصعب الذي يعيشه هؤلاء الأطفال في غزة، قلّب حياتهم، حتى أضحت لغتهم هي لغة السوق والباعة وكأن عمرهم تجاوز حدود الطفولة وأصبحوا يتحملون المسؤولية من طفولتهم.
لم تعد ألعاب الأطفال تشد انتباههم، ولا تلك الكرة المتروكة جانبًا في زاوية خيمة النزوح، بل أصبحت جدلياتهم تدور عن أسعار السلع والبضاعة في الأسواق.
يُراقب هؤلاء الأطفال بورصة الدقيق والسكر والأرز، ينتظرون بفارغ الصبر انخفاض سعرها ولو بشيء بسيط، كي يغتنموا شراء بعض الكيلوات لعائلاتهم، من أجل سد جوعهم.
وأجبرت الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ 20 شهرًا، والأوضاع الاقتصادية والمعيشية المأساوية الأطفال الغزيين على الانخراط ببعض الأعمال التي تفوق قدراتهم وأعمارهم، بهدف إعالة أسرهم.
ويعيش هؤلاء الأطفال ظروفًا مأساوية، جراء النزوح المتكرر وفقدان أفراد من عائلاتهم، بينهم المعيل الأساسي، ما جعلهم يتحملون مسؤوليات كبيرة، بهدف توفير قوت عائلاتهم.
طفولة غائبة
المواطنة سجود بهجة تقول لوكالة “صفا”: “لم تعد اهتمامات طفلي كما كانت سابقًا، استغرب تركه لكرة القدم التي كانت تلازمه كظله، يركض خلف أبناء عمومته ويعود في وقت العصر وفي يده بضع شواكل يحدثني بأنها حصته من شُغل اليوم”.
وتضيف “في بداية الأمر، عندما عاد طفلي بمبلغ 30 شيقلًا، ضربته كثيرًا، كنت لا أرغب في أن يحصل على المال بطرق ملتوية، إلا أنه أخبرني بأنه يبيع بعض أكياس الماء المثل، برفقة أبناء عمه، ثم يقومون بتوزيع الغنائم كما يسمونها”.
وتتابع “عارضتُ كثيرًا، فلم أكن أرغب في أن تتحول لغة طفلي إلى السوقية، وأن يتحدث بلغة الكبار قبل أوانه، إلا أنه بقيّ مصرًا على الذهاب مع أبناء عمومته قائلًا لي: (أنا زلمة كبير وشو بدك بتطلبي مني وبعدين هينا على دوار الصاروخ في شارع الجلاء مش بمكان بعيد)”.
وتشير إلى أن ابنها يحادثها من هاتف ابن عمه، كي يُخبرها إن كانت تحتاج شيئًا، أو إن كان هناك شيءٌ ما ينقص شقيقته الصغرى، كونه مسؤولًا عنهما.
وترى بهجة أن هذه الحرب قد أبدلت حياة الصغار وقلبتها رأسًا على عقب، حيث أصبح تعاملهم وحديثهم كما الكبار، متسائلة باستغراب “كيف لهم أن يكبروا هكذا، وأن يجمعوا عالمين مختلفين في آن واحد؟”.
واقع صعب
وعلى بسطة صغيرة في سوق أبو إسكندر الشعبي في حي الشيخ رضوان بغزة، يقف الطفل محمد نصر يُنادي بأعلى صوته “كيلو العدس 18 مش 20، اشتري وطعمي أولادك، فش عنا استغلال، احنا من الشعب وعارفين وجعكم، قرب يبو العيال واشتري”.. لغة تعلمها من تجواله المتكرر داخل الأسواق فأخذ يكررها لجلب المشترين له.
يقول نصر (14 عامًا) لوكالة “صفا”: “أبدأ يومي من الساعة السابعة صباحًا بافتتاح البسطة قبل قدوم والدي وأبدأ بالمناداة على المشترين وترغيبهم في الشراء عبر تخفيض سعر البضاعة شيكلًا واحدًا أو شيكلين، كي أحظى بقبول كبير ويصبح لدي زبائن يتهافتون للشراء مني”.
ويضيف “نحاول التعايش مع الواقع، نحن حرمنا من حياتنا كأطفال، ومن أن نكون على مقاعد الدارسة نُقدم الامتحانات النهائية”.
و”منذ عامين حُرمنا من هذه الأمور، لذا قررتُ أن أركض إلى جانب والدي لإعالة عائلتي، في ظل الغلاء الفاحش والوضع الصعب الذي نعيشه”.
ويتابع “بنشوف بنات بتلف بالسوق تبيع نعنع وبقدونس عشان تساعد عائلاتهن، فالبيع والشراء في الحرب لم يعد مقتصرًا على الصبيان فقط، الحرب أكلت منا الكثير والذي لا يعمل لن يأكل”.
ويبين أنه لا يفكر بأي شيء سوى المساعدة ولو بالقليل في توفير ما تحتاجه عائلته، مبينًا أن ارتفاع الأسعار وفجور التجار تجاوّز كل حد.
ويشير إلى أنه يسعى للاستقلال عن والده، وأن يصبح له بسطة خاصة فيه، في ظل وجود زبائن تسأل عنه وقت غيابه.
ويواجه الأطفال في غزة تحديات جسيمة، وأوضاعًا مقلقة للغاية، بسبب استمرار الحرب، ويعانون من تداعيات حرمانهم من المساعدة الإنسانية والحماية. وفق منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”
وحسب المنظمة الأممية فإن 16 ألف طفل قُتلوا في قطاع غزة منذ بداية الحرب، كما أن 39 ألف طفل أصبحوا أيتامًا.