بعيون تائهة وسط جموع من النساء اللاتي أخذن يبكين حظ الصغير الذي لم يشبع بعد من حضن والديه، يبحث الطفل عدلي عسلية، لم يتجاوز العامين من عمره، عن والده الذي تعلق به، عقب استشهاد والدته قبل أشهر.
أرهبه بشدة هذا الحضور من النسوة، والذي لم تألفه عيناه، كونه اعتاد منذ استيقاظه صباحًا على التعلق برقبة والده كي يرميه في الهواء ويُعاود التقاطه، فترتسم على ثغره بسمة تخرج من قلبه، كي يكررها والده عدة مرات، قبل خروجه إلى العمل في صالون الحلاقة الخاص به.
تترقب عيناه باب غرفة الصف التي لجأوا إليها، بعد هدم الاحتلال الإسرائيلي منزلهم، وهو يجلس في حضن جدته، ينتظر بلهفة فتح والده للباب كي يركض إليه، هربًا من تلك النظرات التي أرهقت قلبه الصغير.
لم يكن الصغير يعلم أن نظرته للباب ستطول دون أن يُفتح، لأن والده الذي ودعه قبل أيام لن يعود مجددًا ويأخذه ليلاعبه، في محاولة منه لتعويضه عن حنان الأم الذي افتقده بعمر كان أشد ما يحتاج اليه.
عدلي الذي انتظره والداه أربعة أعوام، بعد رحلة علاج في مراكز الإخصاب، ليروي ظمأ قلبيهما، أصبح يتيمًا دون أبٍ وأم وألقته الحرب ليربى في كنف جدته.
حرمان ووجع
تقول جدته لوكالة “صفا”: “بعد استشهاد أم عدلي في شهر نوفمبر الماضي، تعلق الصغير بوالده ولم يعد يسكت عن البكاء سوى بين يديه”.
وتضيف “في كل مرة كان محمد والد عدلي، يذهب إلى عمله تحدث معركة لعدم رضى الصغير عن ترك رقبة والده وكأنه كان يعلم أنه سيستشهد ويتركه”.
وتتابع “أوقات كتيرة كان الطفل يرفض ترك أبوه، فيضطر لأخذه معه إلى صالون الحلاقة، مبررًا فعلته حرام ما شبع من حنان أمه خليه يا عمتي”.
حروف اللغة التي لم تكتمل في فم الطفل عدلي، أبت إلا أن ينطق باسم والده، تزامنًا مع فراقه.
تقول جدته: “قبل استشهاد أبوه بيومين صار ينادي عليه (بابا حمد)، كانت فرحة محمد كبيرة، لكنها لم تدم طويلًا، لأنه ذهب وترك صغيره يُنادي دون أن يرد عليه”.
وتردف “عدلي صار أمانة في رقبتي، كل ما بنظر إليه بتذكر أمه، الله يرحمها، تركت لي حمل يهد جبال”.
ويبقى السؤال العالق في ذهن الطفل، “أين ذهب والده ووالدته وتركاه وحيدًا هنا، هل سيقتنع أن ذهابهم إلى الجنة كما ستجيبه جدته لم يكن بيدهما، وأن أعمارهما انتهت عند ذلك الحد؟”.
ولم يكن عدلي الطفل الفلسطيني الوحيد الذي حُرم من والديه، فهناك (35,074) طفلًا يعيشون بدون والديهم أو كليهما، منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
وحسب المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، فإن الاحتلال أباد (3,471) عائلة فلسطينية منذ بدء الحرب، ولم يتبقَّ منها سوى فردًًا واحدًا.